ثم هنالك تلك الواقعة المشهورة التي وقعت مع الإمبراطور الرومي هرقل الذي سأل أبا سفيان عما إذا كان محمد يكذب قبل النبوة؟ فقال أبو سفيان: "لا" . وقد علق ابن كثير بعد ذكر هذه الواقعة: "وقد كان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفر وزعيم المشركين , ومع هذا اعترف بالحق " .
وهذا هو النسل الإنساني الذي أنشأه إبراهيم عليه السلام بـ " ذبح ولده " وتكونت خير أمة من صفوة هذا النسل التي قبلت بدين التوحيد قبولا كاملا وقضت على عصر الشرك بتضحيات لا مثيل لها وفجرت عصر التوحيد.. واستغرق تنفيذ هذه الخطة ألفين وخمسمائة سنة ابتداء بإبراهيم عليه السلام وانتهاء بمحمد - صلى الله عليه وسلم - . وكان مركز هذه الخطة تلك المنطقة من بلاد العرب التي تسمى بالحجاز ومركزها مكة. والحج إعادة رمزية لذلك التاريخ. والمسلمون يعاهدون ربهم مرة أخرى عبر شعائر الحج بأنهم راغبون في الاشتراك في هذه الخطة الإلهية.. فهم يتقاطرون إلى أرض إبراهيم وإسماعيل رافعين شعار لبيك اللهم لبيك ، ويقلدون بصورة رمزية خلال أيام معلومات ما وقع عليهما في حقيقة الأمر، وهم يقولون لله تعالى أنه لو دعت الحاجة فهم مستعدون لإعادة ذلك التاريخ الذي وقعت أحداثه على هذه الأرض.. وقد استدار الزمان اليوم مرة أخرى فوصل إلى ما كان عليه في عصر إبراهيم عليه السلام. فكان (الشرك) يسيطر على فكر البشر في تلك الأيام، أما اليوم فيسيطر (الإلحاد) على الفكر العالمي.، وإذا كان إنسان العصور الغابرة يفكر في قالب الشرك فإنسان العصر الحاضر يفكر في قالب الإلحاد. والحقيقة أن قضية العصر الحاضر هي عين قضية العصر القديم، مع فارق واحد وهو أن شاكلة الشرك كانت تغلب أذهان الناس في العصور الغابرة، أما اليوم فتغلب عليهم شاكلة الإلحاد. وأهم واجب إسلامي اليوم هو تحطيم هذه الشاكلة الفكرية. ويجب أن تسير حملة الإسلام اليوم على نفس المنهج الذي سارت عليه في قديم الزمان. ويجب أن يستعد البعض مرة أخرى للذبح. ويجب مرة أخرى أن يسكن البعض أولاده في الصحراء لإحياء تاريخ الدين من جديد. وكان القضاء على عصر الشرك يتطلب التضحية بنسل بشري ، واليوم نحتاج إلى تضحية مماثلة للقضاء على عصر الإلحاد. وهذا هو أكبر درس للحج. والحج المبرور هو حج من يعود من الأراضي المقدسة بهذا العزم.. والحقيقة هي أن عمل الحاج لا ينتهي بعد الفراغ من شعائر الحج بل يبدأ عمله الحقيقي بعد الانتهاء منها، فعودته من الحج بداية لرحلة أكثر أهمية..
ويردد الحاج مرة بعد أخرى خلال شعائر الحج كلمات: لبيك اللهم لبيك .. فما هي هذه الكلمات؟ إنها كلمات معاهدة بين الله وعبده.. وتقع المعاهدة دائما في بداية أمر ما، فهي ليست نهاية له. وهكذا عبادة الحج، فمن يعود بعد أداء مراسم الحج فقد رجع بعد عقد معاهدة مقدسة مع ربه. ويجب عليه ألا يخلد لحياته على سابق عهدها قبل الحج، بل يجب عليه أن يبدأ العمل وفق أحواله كفايته طبقا لما عاهد ربه. فالعودة من الحج عودة من مقام العهد إلى مقام العمل. ولا تنتهي مسئوليات الحاج بعد الانتهاء من الحج بل تزداد وتكبر في حقيقة الأمر. وما هي معاهدة الحج؟. إنها عزم على إعادة تاريخ معين، وهي إقرار باستعداد العبد لتكرار الحياة الإبراهيمية. فحين شاهد إبراهيم عليه السلام أهل العراق المتحضرين لا يصغون لكلامه حول التوحيد والآخرة وضع خطة جديدة لعمله بأن أخضع نفسه وأسرته لأشد التضحيات فأنشأ نسلا جديدا. لقد حوّل إبراهيم عمل الدعوة إلى خطة عظيمة. وقام بكل ما كانت هذه الخطة تقتضي منه من تضحيات. وهكذا يجب على الإنسان أن يقوم اليوم بكل ما تقضيه الظروف وأن يظل صابرا على هذا الدرب إلى أن تحين منيته أو أن يصل إلى هدفه المنشود. وكما كان الشرك يتمتع بالغلبة العالمية في عهد إبراهيم عليه السلام فالإلحاد يتمتع بالغلبة العالمية اليوم. وواجب العائدين من الحج اليوم أن يعملوا على القضاء على عصر الإلحاد وإحياء عصر التوحيد من جديد عملا بالأسوة الإبراهيمية. وعليهم أن يحيوا الأسوة الإبراهيمية مرة أخرى في هذا العصر، ويجب عليهم أن يضحوا في هذا السبيل بكل ما تقتضيه الأحوال منهم، فيجب عليهم أن يحوّلوا التضحية الرمزية إلى تضحية حقيقية. إن الحج عزم على إعادة هذا التاريخ بصورة رمزية في أيام الحج، وبصورة عمل مخطط في الحياة الحقيقية بعد انقضاء أيام الحج.