السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
منابر المسجد الحرام
قال في تحصيل المرام : أول من خطب على منبر بمكة : معاوية بن أبي سفيان ، وكانت الخلفاء والولاة قبل ذلك يخطبون على الأرض قياماً في وجه الكعبة وفي الحجر ، والمنبر الذي خطب عليه معاوية قدم به من الشام سنة حج في خلافته ، وكان منبراً صغيراً على ثلاث درجات ، وكان ذلك المنبر الذي جاء به معاوية ربما خرب فيعمر ولا يزاد فيه ، ولا زال يخطب عليه حتى حج هارون الرشيد في خلافته ، وموسى بن عيسى عاملاً له على مصر ، فأهدى له منبراً عظيماً في تسع درجات منقوشاً ، وأخذ منبر مكة القديم وجعل في عرفة حتى كانت خلافة الواثق بالله ، وأراد الحج فكتب أن يعمل له ثلاثة منابر : منبر بمكة ، ومنبر بمنى ، ومنبر بعرفات . هذا ما ذكرة الأزرقي من خبر المنابر .
وذكر الفاكهي ذلك وزاد : أن المنتصر بن المتوكل العباسي لما حج في خلافة أبيه جعل له منبراً عظيماً فخطب عليه بمكة ، ثم خرج وخلفه بها . انتهى .
وذكر القرشي ذلك وزاد قال : ثم جعل بعد ذلك عدة منابر للمسجد الحرام ، منها : منبر عمله وزير المقتدر العباسي ، وكان منبراً عظيماً منقوش عليه بالذهب : (لا إله إلا الله محمد رسول الله) استقام بألف دينار ، ولما وصل إلى مكة أحرق ، لأنه كان بعث به ليخطب عليه للخليفة المقتدر ، فمنعه المصريون ، وخطب للمستنصر العبيدي صاحب مصر ، وأحرقوا المنبر المذكور .
ومنها : منبر بعث به الملك الظاهر برقوق صاحب مصر في سنة سبع وتسعين وسبعمائة . هذا ما ذكره القرشي . انتهى .
وقال في إتحاف فضلاء الزمن : وفي سنة 818 أرسل المؤيد الجركسي منبراً حسناً إلى المسجد الحرام ودرجته يصعد عليها إلى الكعبة ، ووصل ذلك إلى مكة في الموسم ، وخطب الخطيب على المنبر الجديد خطبة التروية في سابع ذي الحجة .
وفي سنة 879 في الخامس والعشرين من ذي القعدة وصل إلى مكة المشرفة منبر خشب للمسجد الحرام فركب في جهة باب السلام ، وجر إلى المطاف ، وخطب عليه الخطيب في أول ذي الحجة . انتهى .
قال صاحب تحصيل المرام : ولم يبق للمنابر المذكورة أثر ، لوجود المنبر الذي عمله السلطان سليمان خان ، وهو منبر من الرخام ، مكتوب عليه بخط بديع : (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) فيه ثلاث عشرة درجة ، وفي رأسه أربعة أعمدة صغار من الرخام ، فوقها قبة صغيرة قدر قبب المنائر من خشب ، فوق تلك القبة ألواح من فضة محلاة بالذهب ، كاسية جميع القبة لم يظهر من الخشب شيء ، وهو في غاية الظرافة ، وأول خطبة خطبت عليه خطبة عيد الفطر ، كما في منائح الكرم ، ومحله بحذاء المقام من جهة الشام . انتهى ما في تحصيل المرام .
وفي الأرج المسكي : وبالمسجد الحرام منبر من رخام ، أمر بإنشائه سلطان الإسلام ، وناشر لواء العدل على جميع الأنام ، مولانا السلطان سليمان خان ، وقد كان الخطيب قبل ذلك يخطب على منبر من خشب ، وكان انتهاء عمل المنبر الرخام في سنة ست وستين وتسعمائة ، وكانت أول خطبة خطب بها عليه خطبة عيد الفطر ، وكان الخطيب السيد أو حامد البخاري رحمه الله .
وجعلت لهذا المنبر تواريخ عديدة نظماً ونثراً ، فمن النظم قول الشيخ العلامة علي بن حسن باكثير ضمن أبيات :
انظــر إلى منبر منير --- أشـرق في الخافقين بدره
عمـــره مالك البرايا --- خليفة الله جـــل ذكره
أعني سليمان خير مولى --- من آل عثمان طال عمره
تاريخ قل إليــه أقـبل --- بناء سليمـان عز نصره
ومنها قول بعضهم :
منبر السلطان فاق علا --- وتسامـى رفعة وسنا
سليمان الزمان حـوى --- افتخارا فائقا حسـنا
جـاء تاريخ له عجيب --- منبر السلطان تم بنا
ومنها للشيخ صلاح الدين ابن ظهيرة الهاشمي وهو قوله :
شـيد الله ملك من --- أسبغ الله ظلــه
وبأم القرى بنـى --- منبرا ليس مثلـه
حل من بيت ربنا --- بفنــاه محلــه
هاك تاريخه فقـد --- شهد الناس فضله
لسليمــان منبر --- بالدعاء شاهـد له
انتهى .
وقال في تحصيل المرام : وفي تاريخ السيد مصطفى بن سنان الشهير بجنابي : ولما كانت سنة خمسة وستين وتسعمائة أمر الملك المجاهد سليمان بن سليم خان بإعمال المنبر الشريف الذي بالمسجد الحرام ، وأن يعمل من رخام في طرز بديع ، فلما حفروا مكان الأساس ، إذ ظهر رجلان ميتان مدفونان بما عليهما من السلام ولم يُفقد مهما شيء ، فاختلف الناس في أمرهما ، وأما أنا فلم أشك في كون أحدهما عبد الله بن عثمان ، لأنه استشهد مع ابن الزبير وخفي أثره ، ودفن في المسجد خوفاً أن ينبشه أصحاب الحجاج ، والآخر عبد الله بن صفوان ، والعلم لله . انتهى .
المصابيح التي كانت توقد في المسجد الحرام
قال الأزرقي : أول من استصبح لأهل الطواف في المسجد الحرام : عقبة بن الأزرق بن عمرو ، وكانت داره لاصقة بالمسجد الحرام من ناحية وجه الكعبة ، والمسجد يومئذ ضيق ليس بين جدر المسجد وبين المقام إلا شيء يسير ، فكان يضع على حرف داره – وجدر داره وجدر المسجد واحد – مصباحاً كبيراً يستصبح فيه ، فيضىء له وجه الكعبة والمقام وأعلى المسجد .
قال : وأول من أجرى للمسجد زيتاً وقناديل : معاوية بن أبي سفيان .
وعن عبد الرحمن بن الحسن بن القاسم بن عقبة بن الأزرق ، عن أبيه ، قال : أول من استصبح لأهل الطواف وأهل المسجد الحرام جدي عقبة بن الأزرق بن عمرو الغساني ، كان يضع على حرف داره مصباحاً عظيماً فيضيء لأهل الطواف وأعلى المسجد ، وكانت داره لاصقة بالمسجد ، والمسجد يومئذ ضيق ، إنما جدراته دور الناس . قال : فلم يزل يضع ذلك المصباح على حرف داره حتى كان خالد بن عبد الله القسري فوضع مصباح زمزم مقابل الركن الأسود في خلافة عبد الملك بن مروان ، فمنعنا أن نضع ذلك المصباح ، فرفعناه .
قال أبو الوليد : فلم يزل مصباح زمزم على عمود طويل مقابل الركن الأسود الذي وضعه خالد بن عبد الله القسري ، فلما كان محمد بن سليمان على مكة في خلافة المأمون في سنة ست عشرة ومائتين ، وضع عموداً طويلاً مقابله بحذاء الركن الغربي ، فلما ولي مكة محمد بن داود ، جعل عمودين طويلين : أحدهما بحذاء الركن اليماني ، والآخر بحذاء الركن الشامي ، فلما ولي هارون الواثق بالله أمر بعمد من شبه طوال عشرة فجعلت حول الطواف يستصبح عليها لأهل الطواف وأمر بثمان ثريات كبار يستصبح فيها ، وتعلق في المسجد الحرام في كل وجه اثنتهان . انتهى .
وقال ابن فهد في حوادث سنة ست وثلاثين وسبعمائة : وفيها جعلت الأساطين التي حول المطاف ، وجعل بعضها بالحجارة المنحوتة الدقيقة ، والباقي آجر مجصص ، وجعل بين كل من الأساطين خشبة ممدودة راكبة عليها وعلى المقابلة لها ، لأجل القناديل التي تعلق لأجل الاستضاءة حول الكعبة ، عوض الأخشاب التي كانت في هذا المكان على صفة الأساطين .
وقال في حوادث سنة تسع وأربعين وسبعمائة : اجتهد الأمير فارس الدين في إصلاح المسجد الحرام ، وجدد الأعمدة المتخذة حول المطاف . انتهى .
وقال في تحصيل المرام نقلاً عن القرشي : قال عز الدين ابن جماعة : والأساطين التي حول المطاف الشريف أحدثت للاستضاءة بالقناديل التي تعلق بينها بعد العشرين وسبعمائة ، ثم ثارت ريح عاصفة سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فألقتها ، ثم جددت فيها . انتهى ما ذكره القرشي .
وفي درر القرائد : أن السلطان سليمان العثماني غير الأساطين التي حول المطاف ، وكانت من حجارة بأعمدة من نحاس في سنة تسعمائة واثنين وثلاثين ، وبينها أخشاب ممدودة لتعلق فيها القناديل حول المطاف ، وعدة النحاس ثلاثون ، وفي جهة زمزم في آخر الأساطين عمود رخام ، وفي آخر الأساطين من الجهة الأخرى من جهة المنبر عمود رخام . انتهى .
أقول : وقد جدد محمد عزت باشا في زمن السلطان عبد المجيد خان عمودين من رخام من جهة باب بني شيبة على حافة الصحن ، عليها أعمدة من حديد منقور لها بين الأساطين متصلة تلك الأعمدة بالأساطين القديمة ، وقد غيرت أيضاً الأخشاب التي بين الأساطين التي حول المطاف بأعمدة من حديد تعلق فيها القناديل ، وبين كل عمودين سبع قناديل . انتهى ما في تحصيل المرام .
وفيه أيضاً : قال الشبرخيتي على شرح خليل : قال بعضهم : إن الأساطين التي حول المطاف هي حد الحرم الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه ، وما وراء ذلك فهو الزيادة . انتهى .
ومما أحدث في الحرم من الأعمدة النحاس ستة أعمدة ، أرسلتها والدة السلطان عبد المجيد خان في رأسها صورة نخلة من صفر ، طول كل عمود نحو خمسة أذرع مفرقة بالمسجد الحرام ، فأربعة في مقابلة أركان المسجد ، وواحد خلف المقام الحنفي ، والآخر مقابله في جهة باب الصفا ، وركب كل عمود على قاعدة من حجر طولها نحو ذراع ، ويعلق في رأس كل عمود ستة قناديل ، وذلك في سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين ، كما أخبر بذلك الوالد المرحوم . كذا في تحصيل المرام .
وفيه أيضاً : قد جعلوا في عمارة آل عثمان للحرم الشريف في كل قبة من قبب السقف وفي كل طاجن سلسلة ترخى يعلق فيها القناديل ، فتعلق في تلك السلاسل بحسب أمر ولاة الأمر من كثرة وقلة ، والآن في زماننا في دولة السلطان عبد العزيز خان ومن قبله في دولة أخيه السلطان المرحوم عبد المجيد خان يعلق في جميعها برم بلور ، داخلها قناديل صغار . وزاد السلطان المرحوم عبد المجيد خان أعمدة من حديد بين الأساطين التي برواق المسجد من جهة الصحن دائر ما يدور الحرم ، تعلق فيها المصابيح ، بين كل عمودين خمسة قناديل ، توقد في رمضان إلى عشرين ذي الحجة ، وكذلك توقد في دولة أخيه ، وهي باقية إلى الآن ، وذلك في سنة ألف ومائتين وأربعة وسبعين . وجملتها ستمائة برمة ، كل برمة داخلها قنديل .
وأما التي في الأروقة فجملتها ثلاثمائة وأربع وثمانون ، وأما التي حول المطاف فجملتها مائتان وثمان وثلاثون ، وهذا ما عدا التي في المقامات وعلى أبواب المسجد وخارج أبوابه وعلى المنابر في أشهر الحج ورمضان . انتهى .
أقول : قد بطل تسريج القناديل في الحرم الشريف من رابع شعبان سنة 1339 ، وجعل بدله الكهرباء والأتاريك ، فتنور المسجد الحرام بالضوء الكهربائي والأتاريك ، وعلقت المصابيح التي يظهر منها الضوء الكهربائي في المطاف الشريف اثنان وسبعون ، في مقام إبراهيم سبعة ، وفي الرواق الذي بجهة الصحن دائر مما يدور الحرم مائة وعشرون ، وفي المقام الحنفي أربعة ، وفي المقام الشافعي أيضاً أربعة ، وفي مقام المالكي ثلاثة ، وفي مقام الحنبلي ثلاثة ، وفي باب زمزم واحدة ، وواحدة داخله ، وفي زيادة باب الزيادة أربعة ، وفي زيادة باب إبراهيم أربعة ، فجملة المصابيح المعلقة في المسجد الحرام مائتان وثلاثة وعشرون .
وأما الأتاريك فواحدة ، منها موضوعة في المطاف الشريف قبال مقام إبراهيم ، وواحدة فوق الحجر قبال مقام الحنفي ، وثلاثة منها معلقة على أعمدة الحديد ، أحدها خلف مقام المالكي ، والثانية خلف مقام الحنبلي ، والثالثة في حصة باب النبي .